ذَاكِرة تَمّوز

~ ذَاكِرَةُ تَمّوز ~

سَنواتٌ مَضَت على تَحريرِ الجنوبِ من أَيدي العَدوِّ الإسرَائيلي، الّذي تَجَرَّأ مَرّةً أُخرَى وتَطاوَلَ في حربِ تَموز 2006، ولكِن هَيهات! الرَّصاصَةُ الفَصل كانَت وسَتَظَلُّ دَوماً لرجالِ المقاوَمَة.

 وَها هي الذِّكرى السَّنوية الخَامِسَة للانتِصَار تَحُلُّ حَامِلَةً مَعها العديدَ من المفاجآتِ. لم يَدرِ “باقر” وهو ابنُ أحدِ الشُّهداءِ البَواسلِ الَّذينَ قَضَوا إِبَّانَ تَحرير الجَنوب في 25 أيَّار من العامِ 2000 أنَّ سِرّاً من أسرارِ الشَّهادةِ بانتِظارِه.

في ذلكَ اليَوم، وفي ذِكرى الإِنتِصار، بينَما كانَ يُشرِف مع الأخوَة على أمورِ الحَفلِ، تلقَّى إتصالاً من مكانِ عملِهِ.

” حَاج، أظُنُّ أنّه عليكَ القُدوم إلى المكتَب، هنالِك أمرٌ هامّ.”

” مَا الأَمرُ يَا قَاسِم؟! ألا يُمكِنُه الإنتِظار؟؟.”

” كلَّا يا حَاج،لا بُدَّ أن تَكونَ مَوجوداً.فالأمرُ لا يَحتَملُ التَّأجيل!! الأخوَة بانتِظَارِك.”

“الأخوَة! أيُّ إخوَة؟!…قَاسِم هَل تَسْمَعُني؟..قَاسِم؟..انقَطَعَ الاتصَال تارِكاً إيَّاهُ في حِيرَةٍ مِن أمرِه.”

كانَتِ السّاعَةُ تُشيرُ إلى الثَّانيةَ ظُهراً، ” لايَزالُ هُناكَ المزيد مِن الوَقت،رُبَما إذَا ذَهبتُ إلى المكتَب سَيَبقى لديَّ وقتٌ إضَافيٌ للعَودةِ وتقديمِ المسَاعَدة .”  فكَّرَ في نفسِهِ.

رَكِبَ سَيَّارَته وتَوجَّهَ إلى مَكانِ عَمَلِه في (آثارِ الشُّهداء)، زحمةُ السَّيرِ الخانِقة وبُعدُ الطَّريق دَفَعاهُ إلى الغَوصِ في دَوامةٍ مِن الذَّكريات. تَذكَّر يومَ سَارَ خلفَ نعشِ والدِه مُثْقَلَ الخُطى، بَدءاً من منزله إلى “رَوضةِ الشُّهداء”. كانَ في الثَّامِنَةَ عشْرَةَ من عُمرِه عِندما ودَّعَ أباهُ أمامَ الملَأ، حَمَلَ بُندُقيَتَهُ وأقسَمَ أَن يَبقى عَلَى نَهجِ الإمامِ الحُسَين(ع).

تَذَكَّرَ رائِحَةَ البَخّورِ بينَ زَوايا الرَّوضة، الزّينةَ الَّتي كانَت تَتَوسَّطُ أضرِحَةَ الشَّهداء، وصُوَرَهم الَّتي مَلأت الجُدران.

وبَينَما هوَ كذلِكَ، عَلا صوتُ المِذياع (يُقَامُ حَفلُ الذِّكرى السَّنَوية الخَامِسَة للإنتِصَار في السَّاعةِ السَّابعةِ مساءً…كلَّ عامٍ وأنتُم أشرَفَ النَّاس).

الإحتِفال!! …إتِّصَالُ قَاسِم!! لَقَد غابَ عن بالِهِ تَماماً..عِندَما وَصَلَ، كانَ قَاسِم بانتِظارِه.

” الحَمدُ لله أنَّكَ أتَيت، خَشيتُ أنَّكَ لن تَتَمكَّنَ مِن الحُضور.”

” مَا هوَ الأمرُ الذَّي لا يَحتَمِلُ التَّأجيل؟!”

” سَترَى يا حَاج “.

دَخَلَ الغُرفَةَ وقَدِ امتَلَأت بالأخوةِ المجَاهِدين..كانَت علاماتُ التَّعجُّبِ باديَةً على وَجهِه. فهذهِ الغُرفَة لَم تَمتَلِىء بِهَذا العَدَد مُنذُ بعضِ الوَقت. إتَّخَذَ مِقعَدَهُ وأَخَذَ يُمعِنُ النَّظَرَ إلى تِلكَ الوجوه. في هذهِ الأثنَاء، قامَ أحدُ الشَّبابِ بوضعِ صندوقٍ خشَبيٍ أَمامَه على الطَّاوِلة. فتَحَ الصُّندوق، وإذا بِها رُفَاتٌ يُغَطّيها عَلمُ المقَاوَمة!

” رُفاتُ شَهيد…مِن أينَ حَصَلتُم عَليه؟!”

” لَقَد عَثَرنا عَليه أثَناءَ تمشيطِ المنطَقَة من الأَلغام في قريةِ “عَيتا الشَّعب.”  قالَ أحدُ الأخوَة المجاهِدين.”

” “هَل لدَيكُم أيَّةُ فِكرَةٍ عَن هَويَتِه؟

 كَلَّا يا حَاج، فقِلادَة التَّعريفِ لَم تَكُن ضِمنَ الرُّفات!!..هُناك شَيءٌ آخَر عَليكَ رؤيَتَه”…أجابَ قَاسِم.”

 لقَد كانَ دفتَرُ المذكّراتِ هَذا بينَ الرُّفات الطَّاهِرة..يَعودُ تاريخُها إلى أحداثِ حربِ تَموز”…أضافَ أحدُ الأخوة.”

فَتَحَ بَاقِر الدَّفتَر،إختار إحدَى الصَّفَحاتِ بطريقةٍ عَشوائية وقَرأَها بِصَوتٍ عالٍ :

” الخَميس، 30 تَموز 2006…مَرَّ سَبعَةَ عَشرةَ يَوماً على بَدءِ الحَرب، لَقَد نَفَذَت قَذائِفُ الهَاون اليَوم، فاضطُرَّ السَّيد أَمين للذَّهابِ تَحتَ وابلٍ من الرَّصاص إلى مُستَودَعِ الذَّخائِر في البَلدةِ المقابِلةِ “لعَيتا الشَّعب”، وَلَم تَمضِ بِضعُ ساعات حَتَّى عادَ السَّيّد مَع مَجموعةٍ من الأخوَة وبكَميةٍ هائلةٍ من الذَّخائِر!!..”

أكمِل يا حَاج”..فَلتقرأ المزيد.”

قَالَ قَاسِم بنبرةٍ فُضوليَّة.

فَتَحَ صَفحَةً أُخرَى: “السَّبت،2 آب 2006…كانَ الأخوَة اليَوم في أوجِّ عَطائِهِم الجِهادي، وكأنَّ اللهَ قَد بَثَّ فيهم من بَأسِه وثَبَّتَ أقدامَهُم. كُنَّا نَشعُرُ وكأنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بينَ صُفوفِنا، تُقاتِلُ مَعَنا…كَما أعْطَاني مَهدي وَصيَتَه،قَالَ أنَّه مُشتاق، وقد طَلبَ مِنّي أَن أُسَلِّمها إلى أَهلِه. وَبِدَوري أعطَيتُهُ قِلادَتي لِيُسَلِّمَها إلى أَهلي…”

 لَقَد بِتْنا نَعرِفُ أينَ ذَهبَت القِلادَة!!”…عَلَّقَ أحَدُ الأُخوة قائلِاً.”

قَرأ صَفحَةً أُخرى:” الأحَد، 4 آب 2006،إستُشهِدَ أَحمَد اليَوم…كانَ الشَّهيد أَحمَد منَ الأشخاصِ المقَرَّبينَ إلَينا في الجَبهَة، تَراهُ أوَّلَ الحاضِرينَ في الصُّفوفِ الأماميةِ لأيّ عَمليةٍ جِهادية، يُقاوِمُ بِذاكَ الجَسَدِ النَّحيلِ الذَّي حَمَلَ بِداخِلِهِ قُوَّةً وإيمَاناً أكثَرَ مِن أيّ فَردٍ أَخَر، أظُنُّ أنَّ الله قَدِ إشتاقَ إلى رؤيَتِهِ، فأمثالُ أَحمَد يَنتَمونَ إلى السَّماء.”

تَوَقَفَ عنِ القِراءَة واستَرَقَ النَّظرَ إلى الجَميع، وكأنَّ أعيُنَهُم كَانَت تَطلُبُ المزيد.

أغلق الدفتر وهَمَّ بِوضعِه جانِباً وإِذْ بِورَقةٍ تَقَعُ مِن بينِ صَفَحاتِه. فَتَحَها…قَرأَها وَقال:

” لا بُدَّ أنَّها الوَصيَّة الَّتي تَحدَّث عَنها!…الأجدرُ بِنا أن نُباشِرَ العَمَل.”

بعد ليلةٍ كاملة من تَفحُّصِ السِّجِلَّات، والبَحث في أسماءِ المجاهدينَ الَّذين رابَطوا أثناء حرب تموز في قرية “عَيتا الشَّعب”، إستَطاعَ الأخوَة التوصُّل إلى مكانِ تَواجُدِ “مهدي”!!. كانت فرحةً عارِمة…لقَد باتوا الأنَ على مقربةٍ من معرفةِ سِرِّ هَذا الشَّهيد.

في الصَّباح، توجَّه بَاقِر مَع بَعضِ الأخوَة إلى منزلِ مَهدي الكائِن في مَدينةِ “بيروت”. عِندَما فُتحَ البَاب،أطَلَّ شابٌ بَدا وكَأنَّهُ في السَّابعةَ والعِشرينَ مِن عُمرِه، تُزَينُ ثَغرهُ ابتسامةً خَفيفة. ما لَفَتهُم لم يَكُن الابتِسامَة،بل كانت ساقَهُ المبتورَة..كانَ مَهدي مِن جَرحى الحَرب!!

بَعدَ جَلسةٍ قَصيرةٍ من التَعارُف، أخرَجَ قاسِم الدَّفتَر.

 أجَل دَفتَرُ المذَكَّراتِ الشَّهير!.”.قالَ مَهدي مُمازِحاً.”

– إنَّه يَعودُ للشَّهيد كاظم..صَديقي وأخي العَزيز كاظم..كانَ دائِماً ما يَحمِلُهُ مَعَهُ. عِندَما يُخَيّمُ اللَّيل يَختلي بدفترهِ هَذا ليوثِّقَ كلَّ ما يَحدُث، إذْ كانَ يَهوى الكِتابَة. حَرْبُ تَمّوز بالنسبةِ للشَّهيد كانَت بمثابةِ المغامَرة، ممَّا دَفَعَهُ إلى كتابةِ مُذكَّراتِ الحَربِ هذه. ودَعوني أجزُم أن آخر مُذَكَّرة كانَت في 4 آب 2006، أليسَ كذَلِك؟

 هَذا صَحيح”…قالَ باقِر.”

– إنَّه اليَومُ الذَّي استُشهِدَ فيه…في ليلةِ الخامسِ من آب 2006، قامَ العَدوُّ الإسرائيلي بإنزالِ مَجموعَةٍ من الكوماندوس في قريةِ “عَيتا الشَّعب”. أَذكرُ أنَّ الموقعَ كانَ يَضجُّ بأصواتِ الطائراتِ المِروَحيَّة، تأهَّب الجَميع،بمَن فيهم كاظم وأنا. وَضَع دفتَره في جَيبِهِ وانطَلقَ حامِلاً قاذفةَ B7. صوَّبَ القاذفةَ باتجاهِ المروحيَّة،مما أدَّى إلى تَفجيرها فَوراً. وَسطَ النَّيران،وَقَعَ نَظَري على كاظم، كانَ قَد أُصيبَ بإحدى رَصاصاتِ العَدو.استَفَقتُ في اليَومِ التَّالي لأجِدَ إحدى ساقيَّ بهذهِ الحالَة. أمَّا كاظم، فَلَم يَكُن لَهُ أثَر،البَعضَ اعتبرَ أنَّ جُنودَ العَدوّ قَد أسَروا جُثمانَهُ إلى خارجِ الشَّريطِ الحُدودي.

” بطَريقةٍ ما،علِمتُ في تِلكَ اللَّيلة أنَّني سأتَولَّى أمرَ تَسليمِ قِلادَته إلى أهلِهِ.”

مجدَّداً، تشرَّفَ الحاج باقِر وسارَ خلفَ نعشِ أحدِ الشَّهداءِ البَواسِل. ولَكِن هَذهِ المرَّة لَم يَكُن مُثقَلَ الخُطى…كانَ يعرفُ أنَّ على أيدي هؤلاء تُصنَعُ الكَرامَة، وبِدِمائِهِم تُزهِرُ سَنابِلُ الخَير الَّتي لَن تَنحَني سِوى لِرَبِّ العِباد.

أضف تعليق

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑